أبو النور
خطيب بدلة
سأحدّثكم، وأنا أخوكم الأقل شأناً بينكم، في هذه الزاوية، عن أستاذي محمد نور قَطّيع. أنا هنا أقول كلمة (أستاذي)، وأعنيها، وأعلنُها.. وقد اعتدتُ، منذ زمن طويل، كلما استلهمتُ نصاً قصصياً من حكاياته أن أكتب له إهداء صريحاً بجوار النص أقول فيه: إلى أستاذي محمد نور قطّيع.
هذا الرجل، في الحقيقة، ليس بمُعَلِّم، فهو لا يجيد فنون التعليم، والتلقين، والتلقيم، والوعظ، والإرشاد، والتوعية، و(دحش) المعلومات في الأدمغة.. وهو متواضع جداً، لا يفهم بـ (الأستذة)، ولا يطيقها، ومع ذلك، فالمنصت لحكاياته (الشفاهية) يستطيع أن يكتشف عنده مقدرة هائلة على التمهيد، والفََرْش، والتصعيد، والتأزيم، والتفريع، وتلوين سرائر الشخصيات، وإبراز طبائعها المتناقضة.. ويجيد الدخول، على نحو مؤقت، في تفاصيل ناعمة يُغني بها قصته، ثم يعود، على نحو بارع، إلى السياق المشدود الذي يمهد للقفلة العامرة بالمفاجآت، حتى ليستحيل على السامع أن يتوقعها.. على عكس سامعي الشعر العمودي (التقليدي) الذين يتوقعون آخر كلمة من كلمات كل بيت في القصيدة، ويلفظونها قبل أن يلفظها الشاعر نفسه.
كان أبو النور في مطلع شبابه فتى- كما يُقالُ في الكلام الدارج- يفتح العين من العمى، قوي البنيان، طويل، ممتلىء بالصحة والعافية، وأشقر بعينين خضراوين.. مثل نجوم هوليود فرد شكل! ولكن، ومن فرط ما (تقهرم)، وابتلي بالأمراض، وعلى رأسها السكري الذي كان يحكي عنه مستخدماً اسمَهُ الكامل (الداء السكري الوبيل)، تليه الجلطة، وتضيُّق الشرايين، وقلة السمع، وغشاوة البصر، و(الجَظة) في المعدة.. أخذ ينحف ويهزل، ويتقهقر..
والغريب في الأمر، الجميل، الطريف، أن الأمراض لم تستطع أن تفلح في تحويله إلى شخص كئيب، بل أنها زادته ظَرْفاً، وجعلته يؤرخ الأحداث الهامة في حياته بتواريخ الأمراض التي اجتاحته، فيقول، مثلاً، لصديق التقاه بعد طول انقطاع:
- يا رجل، أين هذه الغيبة؟ يمكن ما شفتك من يوم جاءتني الجلطة الثالثة..!
أو يقول: هذه الطاولة اشتريتها وأنا خارج من العناية المشددة بعد الجلطة الأولى.
وفي إحدى المرات حكى لي عن (صورة طبقي محوري) أجريت لقلبه وشرايينه، استلمها من مختبر التصوير وجلس يتفرج عليها، فوجد فيها مَجَرَّة من النقاط البيضاء التي تشبه (دوسة) قط ذي مخالب حادة، وكانت تتوضعُ حولها خمسُ طبعات كبيرة، الواحدةُ منها تشبه دوسة الكديش، وحينما مثل أمام الطبيب وسأله عنها، قال الطبيب:
- هذه النقاط الناعمة عبارة عن جلطات صغيرة جاءتك وأنت لم تشعر بها! أما هذه الطبعات الخمس التي تُشَبِّهُها بدوسات الكديش فهي الجلطات الكبيرة التي أصابتك وكادت أن تقضي عليك.
ههنا ضحك أبو النور وقال لي: الحكي بيننا، أنا شعرت بأربع جلطات كبرى فقط، يبدو أنني (تَمْسَحْتُ) حتى إنني لم أحس بالجلطة الكبرى الخامسة!
لا يجوز لي، وأنا أعرف أستاذي أبا النور، وأعرف خفايا نفسه، أن أزعم أنه كان لا يبالي بالموت، بدليل أنه كان يُنَكِّت عليه، ففي الحقيقة أن هاجس الموت كان لا يفارقه، وكان يحكي لنا قصصاً جميلة تنم عن قوة هذا الهاجس، منها أنه أصيب بمرض بسيط لا يتجاوز حدود (الجريب) وهو في الأربعين من عمره، والتقى بصديقه أبي عاصم الذي بادأه بالقول:
- أيش قصتك أبو النور؟ أراك مُصْفَرَّاً والصابونة تلوح على وجهك.
فقال أبو النور، جَرْيَاً على عادته في المزاح:
- الهيئة أنني سأتوكل! (مصطلح إدلبي يعني: سأموت).
قال أبو عاصم: لا تخف، على كفالتي تعيش سنتين أخريين!
فغضب أبو النور وقال له: يخرب بيتك يا أبو عاصم! سنتين بس؟! اجعلها عشر سنوات في الأقل، أأنت تدفع من جيبك؟!
وبما أن جسم أبي النور من الحجم الكبير، فقد كان لا يستطيع أن يرتدي ثياباً جاهزة لأنها لا تناسب قياسه. وذات مرة ذهب إلى حلب ليفصِّل قميصاً عند خياط أرمني اعتاد أن يخيط عنده من زمان.
أثناء ما كان الخياط يأخذ القياس قال أبو النور:
- يمكن يكون هذا آخر قميص تفصله لي يا خواجا.
استغرب الخياط وقال: ليش خيو؟
قال: يمكن أن أموت قبل أن يتخ!
فغضب الخياط وقال: ليش تموت خيو؟ أنا وأنت مو مضايقين حدا، انشالله بدنا نعيش كتير، وأنت تفصِّل عشرة قمصان تانية!
ضحك أبو النور وهو يروي لي هذه القصة، وقال: ومن يومها وأنا أتريث في التخلي عن القميص الذي يتخ.. قصدي أن أتأخر في استهلاك القمصان العشرة التي حددها لي صديقي الخياط الرائع كيلا أتوكل!
ليلة العيد.. (توكل) أستاذي الكبير أبو النور.. (توكل) وهو واقف على رجليه، كما يليق بالرجال الجميلين.
كان قد اشترى خبز نخالة، وجريدتين، وكتاباً.. كان على ما يبدو مؤملاً أن يمهله الموت حتى يستهلك القمصان العشرة.. ولكن جسده أعلن عجزه عن تحمّل الأمراض.
إنني لا أرثي أبا النور.. ولن أرثيه..
ولكنني- إذا أمهلتني شرايين قلبي الفالصو- سأجمع قصصه وحكاياته والنصوص الأدبية التي اقتبستها عنه من قبل في كتاب يحمل اسمه..
أليس هذا أحسن من الرثاء؟
خطيب بدلة
سأحدّثكم، وأنا أخوكم الأقل شأناً بينكم، في هذه الزاوية، عن أستاذي محمد نور قَطّيع. أنا هنا أقول كلمة (أستاذي)، وأعنيها، وأعلنُها.. وقد اعتدتُ، منذ زمن طويل، كلما استلهمتُ نصاً قصصياً من حكاياته أن أكتب له إهداء صريحاً بجوار النص أقول فيه: إلى أستاذي محمد نور قطّيع.
هذا الرجل، في الحقيقة، ليس بمُعَلِّم، فهو لا يجيد فنون التعليم، والتلقين، والتلقيم، والوعظ، والإرشاد، والتوعية، و(دحش) المعلومات في الأدمغة.. وهو متواضع جداً، لا يفهم بـ (الأستذة)، ولا يطيقها، ومع ذلك، فالمنصت لحكاياته (الشفاهية) يستطيع أن يكتشف عنده مقدرة هائلة على التمهيد، والفََرْش، والتصعيد، والتأزيم، والتفريع، وتلوين سرائر الشخصيات، وإبراز طبائعها المتناقضة.. ويجيد الدخول، على نحو مؤقت، في تفاصيل ناعمة يُغني بها قصته، ثم يعود، على نحو بارع، إلى السياق المشدود الذي يمهد للقفلة العامرة بالمفاجآت، حتى ليستحيل على السامع أن يتوقعها.. على عكس سامعي الشعر العمودي (التقليدي) الذين يتوقعون آخر كلمة من كلمات كل بيت في القصيدة، ويلفظونها قبل أن يلفظها الشاعر نفسه.
كان أبو النور في مطلع شبابه فتى- كما يُقالُ في الكلام الدارج- يفتح العين من العمى، قوي البنيان، طويل، ممتلىء بالصحة والعافية، وأشقر بعينين خضراوين.. مثل نجوم هوليود فرد شكل! ولكن، ومن فرط ما (تقهرم)، وابتلي بالأمراض، وعلى رأسها السكري الذي كان يحكي عنه مستخدماً اسمَهُ الكامل (الداء السكري الوبيل)، تليه الجلطة، وتضيُّق الشرايين، وقلة السمع، وغشاوة البصر، و(الجَظة) في المعدة.. أخذ ينحف ويهزل، ويتقهقر..
والغريب في الأمر، الجميل، الطريف، أن الأمراض لم تستطع أن تفلح في تحويله إلى شخص كئيب، بل أنها زادته ظَرْفاً، وجعلته يؤرخ الأحداث الهامة في حياته بتواريخ الأمراض التي اجتاحته، فيقول، مثلاً، لصديق التقاه بعد طول انقطاع:
- يا رجل، أين هذه الغيبة؟ يمكن ما شفتك من يوم جاءتني الجلطة الثالثة..!
أو يقول: هذه الطاولة اشتريتها وأنا خارج من العناية المشددة بعد الجلطة الأولى.
وفي إحدى المرات حكى لي عن (صورة طبقي محوري) أجريت لقلبه وشرايينه، استلمها من مختبر التصوير وجلس يتفرج عليها، فوجد فيها مَجَرَّة من النقاط البيضاء التي تشبه (دوسة) قط ذي مخالب حادة، وكانت تتوضعُ حولها خمسُ طبعات كبيرة، الواحدةُ منها تشبه دوسة الكديش، وحينما مثل أمام الطبيب وسأله عنها، قال الطبيب:
- هذه النقاط الناعمة عبارة عن جلطات صغيرة جاءتك وأنت لم تشعر بها! أما هذه الطبعات الخمس التي تُشَبِّهُها بدوسات الكديش فهي الجلطات الكبيرة التي أصابتك وكادت أن تقضي عليك.
ههنا ضحك أبو النور وقال لي: الحكي بيننا، أنا شعرت بأربع جلطات كبرى فقط، يبدو أنني (تَمْسَحْتُ) حتى إنني لم أحس بالجلطة الكبرى الخامسة!
لا يجوز لي، وأنا أعرف أستاذي أبا النور، وأعرف خفايا نفسه، أن أزعم أنه كان لا يبالي بالموت، بدليل أنه كان يُنَكِّت عليه، ففي الحقيقة أن هاجس الموت كان لا يفارقه، وكان يحكي لنا قصصاً جميلة تنم عن قوة هذا الهاجس، منها أنه أصيب بمرض بسيط لا يتجاوز حدود (الجريب) وهو في الأربعين من عمره، والتقى بصديقه أبي عاصم الذي بادأه بالقول:
- أيش قصتك أبو النور؟ أراك مُصْفَرَّاً والصابونة تلوح على وجهك.
فقال أبو النور، جَرْيَاً على عادته في المزاح:
- الهيئة أنني سأتوكل! (مصطلح إدلبي يعني: سأموت).
قال أبو عاصم: لا تخف، على كفالتي تعيش سنتين أخريين!
فغضب أبو النور وقال له: يخرب بيتك يا أبو عاصم! سنتين بس؟! اجعلها عشر سنوات في الأقل، أأنت تدفع من جيبك؟!
وبما أن جسم أبي النور من الحجم الكبير، فقد كان لا يستطيع أن يرتدي ثياباً جاهزة لأنها لا تناسب قياسه. وذات مرة ذهب إلى حلب ليفصِّل قميصاً عند خياط أرمني اعتاد أن يخيط عنده من زمان.
أثناء ما كان الخياط يأخذ القياس قال أبو النور:
- يمكن يكون هذا آخر قميص تفصله لي يا خواجا.
استغرب الخياط وقال: ليش خيو؟
قال: يمكن أن أموت قبل أن يتخ!
فغضب الخياط وقال: ليش تموت خيو؟ أنا وأنت مو مضايقين حدا، انشالله بدنا نعيش كتير، وأنت تفصِّل عشرة قمصان تانية!
ضحك أبو النور وهو يروي لي هذه القصة، وقال: ومن يومها وأنا أتريث في التخلي عن القميص الذي يتخ.. قصدي أن أتأخر في استهلاك القمصان العشرة التي حددها لي صديقي الخياط الرائع كيلا أتوكل!
ليلة العيد.. (توكل) أستاذي الكبير أبو النور.. (توكل) وهو واقف على رجليه، كما يليق بالرجال الجميلين.
كان قد اشترى خبز نخالة، وجريدتين، وكتاباً.. كان على ما يبدو مؤملاً أن يمهله الموت حتى يستهلك القمصان العشرة.. ولكن جسده أعلن عجزه عن تحمّل الأمراض.
إنني لا أرثي أبا النور.. ولن أرثيه..
ولكنني- إذا أمهلتني شرايين قلبي الفالصو- سأجمع قصصه وحكاياته والنصوص الأدبية التي اقتبستها عنه من قبل في كتاب يحمل اسمه..
أليس هذا أحسن من الرثاء؟
الأربعاء مارس 01, 2017 5:19 pm من طرف بداية المشوار
» اشتقت اليكم
السبت مايو 16, 2015 8:18 pm من طرف الختيار
» فقدناكم عساكم بخير
الجمعة يناير 23, 2015 10:33 pm من طرف الختيار
» مشروع قانون جديد يتعلق بدخول العرب والأجانب إلى سورية
الأربعاء نوفمبر 20, 2013 8:59 pm من طرف بداية المشوار
» أبشع جريمة في تاريخ البشرية
السبت نوفمبر 02, 2013 11:08 pm من طرف بداية المشوار
» زيادة الرواتب بسوريا
السبت يونيو 22, 2013 2:57 pm من طرف بداية المشوار
» قطرة عسل
الجمعة مايو 10, 2013 6:56 pm من طرف بداية المشوار
» غادرت الحنونة وتركت لي الحسرة
الأربعاء مايو 01, 2013 7:06 am من طرف بداية المشوار
» اكتشاف مكان طوفان نوح
الإثنين أبريل 29, 2013 10:36 am من طرف بداية المشوار
» الحب درجات
الأربعاء أبريل 24, 2013 10:16 am من طرف بداية المشوار
» كيف تتخلص من كرشك
الثلاثاء أبريل 16, 2013 10:36 pm من طرف بداية المشوار
» فضائل يوم الجمعة
الجمعة أبريل 12, 2013 11:07 am من طرف بداية المشوار
» فضل الله
الأربعاء أبريل 10, 2013 8:57 am من طرف بداية المشوار
» فضل تلاوة القرآن
الإثنين أبريل 08, 2013 10:52 pm من طرف بداية المشوار
» بروكسي جديد لكسر المواقع الإباحية
الثلاثاء يناير 15, 2013 12:07 am من طرف بداية المشوار
» فضائل يوم الجمعة
الإثنين يناير 14, 2013 11:59 pm من طرف بداية المشوار
» أسماء المَدِيْنَة المُنَوَّرَة
الإثنين يناير 14, 2013 11:54 pm من طرف بداية المشوار
» الأعمى والربيع
الثلاثاء يناير 08, 2013 8:09 pm من طرف نضال64
» النسر الدجاجة
الثلاثاء يناير 08, 2013 8:06 pm من طرف نضال64
» لا واسطة في أمر الدعاء
الجمعة يناير 04, 2013 9:31 pm من طرف بداية المشوار
» كاظم الساهر : موال يا دنيا انتي الحرمتني
الخميس ديسمبر 20, 2012 10:42 am من طرف بداية المشوار
» مما قرأته و اعجبني
الخميس ديسمبر 20, 2012 10:38 am من طرف بداية المشوار
» هذا ديني . . الاسلام
الثلاثاء ديسمبر 11, 2012 11:19 pm من طرف بداية المشوار
» تعالالي يا روح امك
الثلاثاء ديسمبر 11, 2012 11:16 pm من طرف بداية المشوار
» كن في الدنيا كأنك غريب او عابر سبيل
الخميس نوفمبر 29, 2012 1:53 pm من طرف بداية المشوار