الجزء الثاني لاتصيبونا بالعين

لا تصيبونا بالعين (2)
بقلم: خطيب بدلة
ابتدأت هذه السلسلة المقرئية من مزحة جميلة أطلقها صديقي الدكتور نشأت خوري حينما سألتُه عن سبب البثور (غير المعدية) التي ظهرت في منطقة من جلدي،.. فقال لي:
- مؤكد أن أحداً ما أصابك بالعين!
والحقيقة أن المزايا التي أتمتع بها، أنا محسوبَكم، وتجعل الآخرين يصيبونني بالعين، أكثر من أن تعد أو تحصى، فأنا لدي فائض من الذكاء الخارق يكاد أن يفيض من رأسي و(يتكبكب) على الأرض. هذا الذكاء الخارق يجعلني (من دفشةِ الطرمايةِ أفهمُ)، ولا أتلقى أكثر من (خمسة وعشرين كفاً على غفلة)!
إنني، بالضبط، قرين ذلك العروبي الذي أراد الله أن يُدخل السعادةَ إلى قلبه، فأضاع جحشته، وحزن عليها، وبكى، وصاح مواويل (فراقيات). ولكنه، بعد حين، وجدها، ففرح وانبسط و(شقرق) وغنى وصاح مواويل (فرايحيات) بمناسبة (لَمّ الشمل).. وبما أنه فرح وانبسط وشقرق فقد.. أصابوه بالعين!
ولأن الشيء بالشيء يُذكر اسمحوا لي أن أسترجع وإياكم قصة يتداولها الناس ضمن روايات مختلفة. تقول إحدى هذه الروايات إن رجلاً فقيراً ذهب إلى حاكم المدينة التي يعيش فيها وقال له:
- أسعفونا يا مولاي، فأنا وضعي مكركب أكثر مما تتخيل، إنني أسكن مع أولادي العشرة وزوجتي الحامل ووالديَّ العجوزين في منزل عبارة عن غرفة واحدة ومُوَزِّع، وثمة زريبة ملحقة بالمنزل تزودنا على مدار الليل والنهار بأصوات الخوار، والثغاء، والقوقأة، وروائح الزبل، والبعر، والمياه الجارية في (الطاروق).. ناهيك بالبعوض والبرغش والنمل الطيار والكائنات التي تفقس ضمن هذه التركيبة البيولوجية العجيبة.
حك الحاكم رأسه بأظفره وسأله:
- هل لديك في الزريبة عنزة؟
قال: نعم يا مولاي، إننا نعتمد عليها في تأمين الحليب، واللبن، والجبن، والسوركة، ولولاها لكنا جعنا تماماً.
قال: أدخلها إلى الغرفة. وبعد أسبوع من الآن راجعني!
حاول الرجل الفقير أن يعترض ولكن الحاكم رمقه بنظرة جعلت عظام مؤخرته ترتجف من شدة الخوف وقال: أمر مولاي.
بعد أسبوع عاد الفقير إلى الحاكم الذي بادره بالسؤال عن حاله بعد انضمام العنزة إلى الأسرة، فقال:
- حالنا، يا مولاي- على حد تعبير المطرب محمد عبد الوهاب- عَدَمْ، والموت أرحم لنا مما نحن فيه بكثير. إن العنزة- يا سيد رأسي- لم تترك دفتراً من دفاتر الأولاد إلا وأكلته، ولم تترك فرشة من فرشاتنا التي ننام عليها إلا وملأتها بالبعر و(الشخاخ)، عدا أصوات الثغاء التي أصبحت أنا شخصياً حينما أسمعها أعتقد أنها تجرِّب صوتها ضمن صيوان أذني!
قال الحاكم: هل لديك في الزريبة بقرة؟
قال: طبعاً يا مولاي، ونحن لولا البقرة..
قاطعه الحاكم قائلاً: أعرف أنها مفيدة لكم، وإلا فلماذا تقتنيها؟! أدخل البقرة إلى الغرفة، وراجعني بعد أسبوع!
نفَّذ الفقير الأمر، وحينما عاد لمراجعة الحاكم لم ينتظر أن يسأله عن الحال، إذ هَبَّ يتحدث بطريقة الرامي رشاً فقال:
- إنها مباراة حقيقية، يا مولاي، تخوضها البقرة والعنزة في سبيل إزعاجنا، إنهما شبيهان بلاعبي خط الهجوم في كرة الطائرة، الأول يرفع الكرة للثاني، والثاني يكبسها، ومن عزم (الكبسة) يوقعُ نصفَ مدافعي الفريق الخصم على الأرض! ألم أشكُ إليك في الأسبوع الفائت من حقارة العنزة؟! يا سيدي، العنزة، إذا ما قورنت بالبقرة، فسيتضح أنها على قدر كبير من النبل والأكابرية، أخي بنت خلق وعالم.. شو هالحكي!
قال الحاكم: حسناً، أعد العنزة إلى الزريبة وراجعني بعد أسبوع.
بعد أسبوع سأله الحاكم: كيف صار الوضع؟
قال الفقير: محمول سيدي، محمول.
قال: أعد البقرة إلى الزريبة وراجعني بعد أسبوع.
بعد أسبوع أخرج الفقير البقرة من الغرفة، وقام هو وزوجته وأولاده ووالداه بتنظيف الغرفة وترتيبها حتى عادت مثلما كانت.
وحينما ذهب إلى الحاكم وسأله كيف الحال؟
قال الفقير باندفاع: ممتاز سيدي ممتاز!
فقال الحاكم: وضعك ممتاز قبل أن تأتي إليَّ، ولو لم أكن أنا ابن خلق وعالم أكابر، لكنت أصبتك بالعين!
(يتبع)
خطيب بدلة