لم يكن من السهل على أبي زاهر صدور قرار إعفائه من وظيفته حارساً لأحد المباني الحكومية التي لا يستطيع عملاً غيرها نظراً لإصابته بنسبة عجز في جسده ، فقد استبدلت الوزارة حارسها بكمرة مراقبة مزودة بجهاز إنذار حديث ..ليرجع إلى بيته يحمل بيده هذا القرار المشئوم بدلاً من الحلوى أو دجاج مشوي من سوق المدينة أو بعض الفاكهة إلى عائلته التي تسكن بيتاً طينياً في قرية نائية ..
دخل بيته والأسى واضح في تجاعيد وجهه .. سلّم الورقة إلى زوجته وانفرد بنفسه لا يُكلم أحداً لكنّ أبناءه الثلاثة زاهر وهو أكبرهم ووائل وهو أوسطهم وروان الطفلة الصغيرة ذات التأثير البالغ في أبيها اجتمعوا حوله يضحكون بدلاً من البكاء على أشياء كانوا ينتظرونها ورضوا بورقة حطّمتْ لهم مستقبل أبيهم لأنها قدر الله .. سحبوه إلى سفرة الطعام وأخذت روان تُدخل اللقمة تلو الأخرى في فم أبيها الذي استطاع ابتلاع هذه اللّقم الصغيرة ليتبدد حزنه بعد سماع جواب ابنته على سؤاله :
- ولكن لن تزعلي مني إذا لم أستطع إحضار ما عوّدتكم عليه كل يوم ؟
- لا يا بابا ، نحن نحبك كثيراً .
يقول زاهر :
- الرزاق هو الله يا والدي الحبيب .
أُصيب أبو زاهر بحالة من الذّهل لم تُكن أهون عليه من تلك التي اختلجته أثناء تسلّمه للقرار وذلك لوعي أسرته وتفهمها ، لأجل هذا هانت على أبي زاهر مُصيبته فأوى إلى فراشه مُتفائلاً بغدٍ أفضل فهو يعلم أن الرزق بيد الله وحده وسلّم للنوم عنانه وأطبق جفنيه على أحلام سعيدة .
استيقظ أبو زاهر حال سماعه صوت أذان الفجر بعد أن رأى رؤيا أثارت لديه رغبة في تأويلها فتوضأ وقصد المسجد كعادته كل يوم لأداء صلاة الفجر ثم جلس يدندن بورده وهو يحملق إمام المسجد ليسأله عن تأويل رؤياه فأجابه الإمام بعدم علمه بالتأويل وأرشده إلى عالِم على دراية بهذا العلم .
عاد أبو زاهر من المسجد ينتظر شروق الشمس ليتجه إلى عالِم التأويل ويقصّ عليه ما رأى:
- إني رأيتُ سمكاً من أحجام مختلفة تسبح على مقربة من شاطئ البحر فأصبتُ منها عدداً ولما رجعتُ بيتي فتحتُ إحداهن وإذا بداخلها شيء من اللؤلؤ المثقوب .
يجيبه عالم التأويل :
- خيراً بإذن الله ، السمك هو رزق من الله يُصيبك . والله أعلم . ولكن هذا اللؤلؤ يدل على الدموع الجارية أو الرزق من غير تعب .
فرح أبو زاهر ولكن بشيء من الحذر والخوف من المجهول .. وبينما كان يُحدّث نفسه وهو يمشي على رصيف الشارع بعد أن صار في المدينة يبحث عن عمل ، شاهد صندوقاً يفلتُ من دراجة نارية ويطير في الهواء ويستقر بالقرب منه ويتناثر ما بداخله .. هرول أبو زاهر ناحية الصندوق وإذا بحليّ من الذهب تلمع صُفرته تحت أشعة الشمس الأرجوانية كومة صغيرة وكثير قد تناثر ليستحوذ عليه قبل أن تتناوله أيدي المارّة.. نعم إنه ذهب ، ذهبٌ والله ..إنه ذهب ..إنه أشد لمعاناً وبريقاً من أن يكون معدناً رخيصاً .
من الصعوبة بمكان وصف السعادة التي غمرتْ أبا زاهر عندما أدهشه سرعة تحقيق رؤياه مؤمناً أن تأويل السمك الذي اصطاده هو مُحتوى الصندوق فهذا رزق .. وهو من الذهب ، لكن من أي قيراط ؟ هذا ما سيعرفه عندما يتوجه به إلى بائعي الذهب .
لن أشتري لأولادي بعد اليوم شيئاً ، سيأخذون حاجاتهم من محلات أبيهم التجارية ، سوبر ماركت أبي زاهر ، لا لا .. مجمع أبي زاهر التجاري ، يضم الحلوى واللحوم المشوية ليأكلها أولادي طازجة برائحتها الزكية ، والألبسة الجميلة ليلبس ابني وائل لباس المدرسة الخاص به فرحاً بدلاً مما كان يَرِث عن أخيه الأكبر لباسه كل بداية عام دراسي وكذلك يستبدله كلما ذهب بريقه ، والأحذية الفخمة بدلاً من تلك البلاستيكية التي حزت أرجلهم من يبوستها .. نعم إنه سيتحقق عندما أبيع هذه المجوهرات الكثيرة ، هذا ما أصبح يُحدث به أبو زاهر نفسه .
إلا أن أمانته جعلته ينتظر في مكانه عودة صاحبها فهو أحق بها وقليل منها بالحلال أفضل من كثير بالحرام ثم حدّث نفسه ثانية :
" لا شك أن صاحبها سيفرح فرحاً شديداً عندما أردّ عليه ماله وسيكافئني بمبلغ كبير أُصلح به حالي وحال عائلتي وأجلب لهم وجبة من اللحم المشوي و العصائر الطازجة التي يشربها مترفو أهل المدينة نحتفل بيوم تاريخي نأكل به طعام الأغنياء ليوم لن يتكرر .. على الأقل لن يتكرر على عيني ولكن ربما يبتسم الحظ لأبنائي بعد وفاتي فيأكلونها مع زوجاتهم وأبنائهم "
طال انتظاره وازداد جوعه فقرر العودة إلى القرية ليرجع إلى ذات المكان في اليوم التالي..
فتح الصندوق أمام زوجته يسألها إن كان هذا ذهباً فقالت وهي تضحك :
- كأنك لا تعرف أنني لم ألبس الذهب حتى في عرسي !
- صحيح ولا تذكريني فتلتهب عليّ ذاكرتي ولا أفرح بهذا المال . ولكن ستلبسينه بإذن الله .
- مِنْ هذا .. لا وألف لا .
- حقاً ما تقولين ، إن صاحبه بأمسِّ الحاجة إليه .
عاد إلى نفس المكان الذي وجد فيه الصندوق وجلس في مكان نظيف يترقّب مجيء أحدٍ يبحث عما فقد ..
سأل أبو زاهر أحد المارّة الذي كان يرمقه :
- هل فقدتَ شيئاً .
- لا .
ثم مارّ آخر ملتصق بزوجته تماماً يتبادلان حديثاً حميمياً ربما في الحب .. حملق هذا الرجل في أبي زاهر ثم رجع بنظره إلى زوجته يتهامس معها قائلاً بصوت خافت كي لا يجرح شعور الجالس أبي زاهر : - يبدو أنه من الذين تجوز عليهم الصدقات ، إنه عاجز .
تُجيب الزوجة بنفس الصوت الخافت :
- أجل إنه عاجز ويبدو أن دعاءه مُستجاب ، اطلب منه أن يرزقنا الله بطفل .
ثم بادلها أوراقاً مالية واختار واحدة ودفعها له وقال :
- ادعُ الله لي أن يرزقني طفلاً .
ردَّ أبو زاهر وهو يقلِّب الورقة مندهشاً :
- ولكن يا أخي أنا لستُ شحّاذاً ..
قال هذه العبارة وهو أحوج إلى هذه الورقة المالية التي كانت تعادل ضعف راتبه لشهر كامل أثناء وظيفته ثم رجع إلى عزّة نفسه وترفعه عن الصدقات فأتبع قائلاً بنبرة استعلاء :
- أنا أنتظر هنا لعل فاقد المال يعود لأخذ ماله الذي ضيّعه .
- إنْ لم تُعجبك سأزيدك ؟
- خذها ... وقذف بها إليه .
وضع المارّ ماله في جيبه وهو يقول :
- سبحان الله ! لم أرَ شحاذاً كهذا لا يقبل الصدقات ، ويتعفف عندما لا تُعجبه الصّدقة مُدّعياً أنه ينتظر أحداً مع أني كنتُ سأزيده .
- دعْك منه ، أنت رجل طيب يا حبيبي .
وتابع الزوجان طريقهما يُكملان أحاديثهما الصباحية فيما لملم أبو زاهر نفسه وغيّر جلسته التي لم تعد تُجدي وأصبحتْ تثير الشكوك وربما تأتيه دورية مكافحة التسوُّل تظنّه كما ظنّه ذاك الرجل فيصبح في السجن لا يصدقه أحد أنه ليس شحاذاً .. وقبل مغادرته المكان ترك عند صاحب الدكّان القريب من المكان خبر المال ، وأثناء خروجه من الدكان دخلت امرأة تلبس في يديها أساور من الذهب فانتظرها ليسألها عن ذهبه .
- أختي الفاضلة .. السلام عليكم .
- وعليكم السلام ! أتعرفني ؟
- لا .. المعذرة ، فقط أريد أن أسألك سؤالاً .
- تفضل .
فتح الصندوق واستخرج شيئاً من محتواه ورفعه إليها .
- هل هذا ذهب ؟
- أجل . إنه ذهب ولكن ...
قاطعها بصراخه فأكملت طريقها وهي تقول بصوت مسموع :
- اللّهم ثبت علينا العقل والدين .
رجع أبو زاهر في اليوم الثالث يسأل صاحب الدكان عن معرفته إن كان أحد فقد مالاً فأجابه أن لا علم له ولم يسأله أحد عن فقدان شيء فقرر العودة بالصندوق إلى بيته وأنه لا حجة لفاقده بعد مهلة ثلاثة أيام ومع هذا فقد قرر أيضا أن يرد المال إلى صاحبه في المستقبل إن كان قد اهتدى إليه .وعندما دخل البيت سألته زوجته :
- هل وجدتَ صاحب المال يا أبا زاهر ؟
- لا والله لم أجده .
- ماذا ستفعل به .
- سأتصرف به على أنه مالي .
- هل تريد أن تُطعمنا من الحرام ؟!
- لا ، معاذ الله .
- إذن ماذا تسميه ؟
- سأردّ عليه ماله في المستقبل إن عرفته .
- هكذا لا بأس .
غمرت العائلة بأفرادها الخمسة سعادة وفرح وسرور وأمل في مستقبل يبرق نعيماً لا حدود لمنتهاه لأن استثمار أبي زاهر لهذا المال الكثير سينمو أضعافاً مضاعفة ولن يصرفه على ملذاته في الوقت الحاضر وإنما سيُتاجر به ويصرف بعضاً من أرباحه .. وسرعان ما سأل زاهر أباه :
- ماذا ستفعل يا أبي بالمال بعد أن تبيع الذهب ؟
- سأُجيبك حالاً .
دخل أبو زاهر وأحضر شيئاً بعد وقت ليس بالقصير وقال للعائلة :
- اتبعوني .
لحقتْ العائلة بأكملها برب الأسرة وهم أمام مشهد رهيب ، وضع أبو زاهر ورقة مكتوب فيها "الفقر" وناول كل واحد منهم معولاً أو شيئاً يشبه المعول وأوقفهم بالقرب من حفرة ورمى بالورقة في الحفرة بعد أن ألقى كل فرد من أفراد العائلة نظرة عليها وقرأ ما فيها .
صرخ أبو زاهر بصوت يشق عباب الفضاء بقوله :
" هيا لنقبر الفقر ".
ضحك الأولاد وهم يقفزون فرحاً ويقبّلون أباهم الذي قبر الفقر إلى الأبد لأنه ضيف لا مرحباً به ، ثم خلد كلٌّ منهم إلى أحلام وتخيلات كلٌّ على قدر عمره هذا بالطبع بعد تحقيق الحلم في بناء فيلا من دورين يُزينها كثير من الأشجار والورود ومسبح يتلألأ ماؤه الصافي مع بارقة الصباح .
يقول زاهر لأخيه الأصغر وهو في حالة تأمل أو تخيل :
- بماذا تُفكر يا وائل ؟
- بغرفة لي بها حمام خاص ومكتبة وخزانة لألبستي .
- وأنت ؟
- بغرفتين ، أستقبل في إحداهن أقراني .
ثم قاطعتْ ربة البيت أخيلة الجميع تطلب من زوجها المسارعة في بيع هذه المصوغات الذهبية لإصلاح أحوال الأسرة فيجيبها الزوج :
- رغم هذا فأنا غير مُطمئن .
- لماذا ؟ أليس الذهب بين يديك ؟
- بلا ، ولكنّ رؤياي فيها شيء غامض إن صدقت الرؤيا على هذا الصندوق ومع الصباح سنعرف كل شيء بإذن الله .
اضطجع في فراشه ثم أخذ يُفكر بكثرة الديون التي تكبّدها خلال هذه الأيام الثلاثة في الانتظار الطويل دون عمل وفي مصروف الطريق ثم تذكر أنه لا يملك أجرة الطريق ليوم الغد .. أسئلة كثيرة وأحلام لم تتركه ينام ، لأن أحلام اليقظة ستغنيه عن أحلام النوم ، ثم وجهت له زوجته سؤالاً في آخر الليل بعد أن تحسست أن زوجها لم ينم بعد :
- هل ستتزوج عليّ يا أبا زاهر ؟
- ألم تنامي بعد ؟
- مثلك ...
قاطعها قائلاً :
- ولكن تفكيري ليس كما تفكرين .
- الرجال دائماً يتهربون من الإجابة عن مثل هذه الأسئلة .
- لكنني لن أفعلها فأنت رفيقة حياتي .
ثم استدارت الزوجة قلقة تُفكر بمستقبل مرير مع تعدد الزوجات رغم كثرة الوعود من زوجها ..حلّ الصباح بإشراقة أمل قد لاح على أعين لم تنم طيلة الليل ..
لبس أبو زاهر ثيابه المتواضعة وخرج يقرع باب صديقه الحميم السيد أمجد ليستدين منه أجرة الطريق فوجده نائماً فأيقظه وطلب منه مبلغاً زهيداً ولكنه ليس على أبي زاهر بالزهيد ( على الأقل الآن )
- وماذا تريد من المدينة بعد أن فقدت وظيفتك وليس معك المال لتتسوق ؟ ألا تريد مالاً يكفيك للعودة وشراء شيء للأولاد ؟
يرفع إليه أبو زاهر كيساً أسود ويشير إليه قائلاً :
- سأبيع هذا وأردّ عليك كامل حقك عندي وحبّة مسك .
- ما هذا ؟ إنه كيس قمامة .
- أجل للتمويه وصرْف الأنظار عن محتواه .
- لو كنت أعلم أن عندك ذهب لقلتُ لك إنك مُحق فيما تقول .
- سأقول لك عند عودتي من المدينة لأنني على عجلة من أمري و أريد أن ألحق الحافلة قبل رحيلها .
انصرف أبو زاهر بعد أن حصل على المبلغ مع كثرة الأسئلة الفضولية وهو يخاطب يده :
- هذه آخر مرة أضعكِ في موضع الطلب ، اعذريني الآن . الآن فقط .
ركب أبو زاهر في مقعده بجانب رجل عجوز وتأبط الكيس حذراً من أية غفلة عنه أو إغماضة عين ثم أخذ يصارع النعاس الذي انتابه جراء سهره الليل كله .. دخل في أحاديث مملة مع العجوز الذي لا يسمعه إلا بعد إعادة وتكرار وبصوت مرتفع .
على أبي زاهر أن يتحمل صوت هدير محرك الحافلة القديمة والمتهالكة وشدة الحر التي تلفحه بها ألسنة الرياح من النافذة لنحو مئة كيلو متر حتى يصل إلى الموقف ، أخذ يَهْذي بكلمات لشدة نُعاسه ولحسن حظه أن هذا العجوز لا يسمعه ثم لحظات وأحكم إطباق جفنيه وفتح فمه على أكبر قدر ممكن لسحب هواء يدفعه من فتحتي أنفه مُحدثاً صوتَ صفيرٍ لا ينتسب بحال إلى صوت العصافير أو البلابل بل لعله يضاهي صوت هدير المحرك .
قليل من رشات الماء من معاون الحافلة على وجه أبي زاهر بعد ما تبين له أن صوته لم يوصله إلى نتيجة في محاولة إيقاظ هذا الراكب النائم ليَتَنَبّه أبو زاهر من ثباته العميق فزعاً يتلمس حجم الكيس ليجده كما هو ، فحمد الله ثم نزل على مسافة قريبة من بريق أمل في أسواق الذهب و الصّاغة .. شعر بشيء من الجوع فهو لم يتناول طعام الإفطار مع عائلته فأخذت المطاعم الفخمة تخطف أنظاره فرد بصره إلى شيء أهم هو بيع الذهب أولاً وأخذ يُحذر نفسه بعدم الثقة من أول عرض يأتيه ، بل سيسأل جميع الصاغة ويختار العرض الأكبر .
لن أترك أحدهم يضحك عليّ لجهلي بالذهب وسعره ، سوف أسألهم جميعاً ، سيعرفون من شكلي وهندامي أنني لست ممن يفهمون بيع الذهب ، ولكن هيهات المذلة إلا لله وحده .. أنا أبو زاهر الرجل الفطن النّبيه ... هكذا حدّث أبو زاهر نفسه قبل أن يدخل أول سوق للذهب .
- مرحباً .
يُجيبه الصائغ مُتململاً بزبون رثّ في باكرة الصباح سوف يجلب النحس لمكانه لا محالة ..على أقل تقدير كما تراءى له :
- أهلاً ، تفضل ماذا تريد أن تشتري .
يضع الكيس على المنضدة أمام الصائغ قائلاً :
- بل أريد أن أبيع هذا .
- لم أستفتح بعدُ بأي بيع فلا أستطيع شراء شيء حتى المساء فلديك كمية كبيرة وثمنها كبير جداً .
استبشر أبو زاهر خيراً وتوجه إلى صائغ آخر وعرض عليه الذهب فأجابه كصاحبه الأول ليخرج دون ملل إلى صائغ ثالث :
- السلام عليكم .
- وعليكم السلام . هل أعجبك شيء في الواجهة ؟
- " لا .. "
قاطعه الصائغ مستنكراً :
- إذن لماذا دخلت .. هيا اخرج فأنا لستُ ألعب ها هنا .
بلع أبو زاهر غضبه مما تعرض إليه من هؤلاء الصاغة الأغنياء الذين يحتقرونه من مظهره فتحمّلهم لأنه بات قاب قوسين كي يكون في عداد الأغنياء الأثرياء وربما من أصحاب السلطة والجاه .. قال :
- سامحك الله يا أخي ، أريد بيع هذا ولا أريد الشراء .
- هداك الله ، تأتي باكراً تريد البيع! تعال في المساء .
خرج أبو زاهر وبدأ القلق ينتابه خوفاً من تعرضه للسرقة فهو لا يعرف أحداً في المدينة ولا يقدر أن يدافع عن نفسه لعجزه ولا يملك المال ليأكل أو يذهب إلى القرية ويعود في المساء ، ثم إنه إن عاد إلى القرية فسيرجع في الحال لضياع الوقت في الطريق وبذلك يحل المساء فلا يستفيد شيئاً ولن يرجع القرية حتى ولو كان ثمة وقت فلن يستطيع المغادرة لعدم وجود أجرة الذهاب فضلاً عن العودة ثانية وإن كان ثمة نقود فلن يبرح المدينة حتى يبيع الذهب كي لا يأتي بيته بخيبة الأمل وصفرة اليدين وشماتة الشامتين وكثير من الأفكار هو في غنى عنها ..
قرر أن يبيع محتوى الكيس فُرادى على كثير من الصاغة فدخل باباً رابعاً :
- أريد البيع ، هل تشتري الذهب ؟
- أشتري ولمَ لا ، فأنا هنا لأشتري وأبيع ، هل تراني ألعب ، زن كلامك قبل أن تنطق به يا هذا .
بلع غضبه ثانية بيبوسة في ريقه وكظم غيظه فلن يستطيع أن يفعل شيئاً في المدينة ينتقم لكرامته فقبِل قُبح المعاملة نظراً لحاجته لبيع الذهب .. أخرج عيّنة من الكيس دون أن يتفوّه بكلمة واحدة وسلّمها للصائغ .. وضع الصائغ سوار الذهب تحت المجهر فقال بصوت مرتفع جداً :
- هل تراني غبياً ؟!
بلع أبو زاهر يبوسة ريقه وقال :
- معاذ الله .
- من أين هذا الذهب ؟
- عثرتُ عليه في الشارع .
يضحك الصائغ ويقول له :
- أرجعه إلى حيث وجدته.
يبتسم أبو زاهر ليخفي خوفه من اتهامه بالسرقة :
- والله لقد زرعت نفسي لثلاثة أيام في المكان الذي عثرتُ فيه على هذا الذهب ولم أجدْ له صاحباً فقررتُ أن أستفيد منه إلى أن يظهرَ صاحبه .
- لن يظهر له صاحب أبداً .
- لماذا ؟
- لأنه لا يساوي شيئاً في سوق الذهب .
- أليس ذهباً ؟
- بلا ، ولكنه ذهب روسي .
- وماذا يعني أنه روسيّ ! أنت تقول بلسانك أنه ذهب .
يجلس الصائغ ويقول : أنصحك أن ترمهِ في الحاوية .. أو اسمع ، ألبسه لبناتك إن كان لديك بنات .
- وإذا أردتُ بيعه فكم يساوي .؟ إنه كثير .
- تستطيع أن تبيعه في الشارع كما يفعل الباعة المتجولون .. ثم إنك أخرتني عن عملي .
أصبح أبو زاهر تائهاً في المدينة بعد أن نفد ماله الذي استدانه فلا يملك أجرة العودة .. فكرّ مليّاً ولم يُجْدِ التفكيرُ نفعاً فأفكاره لا تقوده إلا إلى طريق مسدود حتى حان وقت أذان الظهر فدخل المسجد وهو يقول في نفسه : " هنا نِعْم القرار في بيت الله بعد الانتهاء من الصلاة إلى أن يحكم الله لي وهو خير الحاكمين" .. ردد الأذان ودعا الله الوسيلة ثم رفع يديه يدعو ما بين الأذان والإقامة فهو وقت فضيل لإجابة الدعاء وبعد انتهاء الصلاة وفراغه من صلاة السنة اضطجع قرب العمود متوسداً غترته الممزقة ، وما إن غمضت عيناه حتى جاءه مشرف المسجد يوقظه يريد إخراجه ليغلق المسجد .
مشى أبو زاهر خطوة إلى الوراء وأخرى تتعثر في أختها إلى أن فاجأه صديق الطفولة والشباب أيام الدراسة في المدينة ، إنه وسيم .
" السلام عليكم ".
تصافح الاثنان ببالغ السرور وكأن أبا زاهر لم يرَ بؤساً قط ثم جلسا على قارعة الشارع وتساءل أبوزاهر عن عدم مشاهدته صديقه القديم داخل المسجد وهما الآن أمامه تماماً فردّ وسيم :
- ألا تعلم أنني لا أصلّي .
- بلى ، ولكن تلك أيام طيش .
ولمِا يتمتّع به أبو زاهر من لسان عذبٍ الكلمات استطاع أن يُقنع صاحبه بالالتزام بالصلاة وأداء الفرائض كلها فهو كذلك لا يصوم ، وفوق كل بليّة فإنه يعترف أنه يلعب القمار ويشرب الخمر وفجأة عدل عما كان يقترفه ..
لم يتوقف وسيم عند قبوله للنصيحة بل استضافه في بيته وساعده في البحث عن عمل مناسب وأغدق عليه العطايا وأرجعه إلى بيته في القرية بسيارته الخاصة محملاً بالهدايا لأبنائه والحلويات والدجاج المشوي .
سلّم أبوزاهر على زوجته وأبنائه وطبع قبلاتٍ حارة في وجناتهم الطرية وقال وهو مقتنع برزقه :
- لَئِن يهديَ الله بكَ رجلاً واحداً خيرٌ لكَ مما طَلَعتْ عليه الشمس. "حديث شريف"
ا.هـ 12-7-2009دخل بيته والأسى واضح في تجاعيد وجهه .. سلّم الورقة إلى زوجته وانفرد بنفسه لا يُكلم أحداً لكنّ أبناءه الثلاثة زاهر وهو أكبرهم ووائل وهو أوسطهم وروان الطفلة الصغيرة ذات التأثير البالغ في أبيها اجتمعوا حوله يضحكون بدلاً من البكاء على أشياء كانوا ينتظرونها ورضوا بورقة حطّمتْ لهم مستقبل أبيهم لأنها قدر الله .. سحبوه إلى سفرة الطعام وأخذت روان تُدخل اللقمة تلو الأخرى في فم أبيها الذي استطاع ابتلاع هذه اللّقم الصغيرة ليتبدد حزنه بعد سماع جواب ابنته على سؤاله :
- ولكن لن تزعلي مني إذا لم أستطع إحضار ما عوّدتكم عليه كل يوم ؟
- لا يا بابا ، نحن نحبك كثيراً .
يقول زاهر :
- الرزاق هو الله يا والدي الحبيب .
أُصيب أبو زاهر بحالة من الذّهل لم تُكن أهون عليه من تلك التي اختلجته أثناء تسلّمه للقرار وذلك لوعي أسرته وتفهمها ، لأجل هذا هانت على أبي زاهر مُصيبته فأوى إلى فراشه مُتفائلاً بغدٍ أفضل فهو يعلم أن الرزق بيد الله وحده وسلّم للنوم عنانه وأطبق جفنيه على أحلام سعيدة .
استيقظ أبو زاهر حال سماعه صوت أذان الفجر بعد أن رأى رؤيا أثارت لديه رغبة في تأويلها فتوضأ وقصد المسجد كعادته كل يوم لأداء صلاة الفجر ثم جلس يدندن بورده وهو يحملق إمام المسجد ليسأله عن تأويل رؤياه فأجابه الإمام بعدم علمه بالتأويل وأرشده إلى عالِم على دراية بهذا العلم .
عاد أبو زاهر من المسجد ينتظر شروق الشمس ليتجه إلى عالِم التأويل ويقصّ عليه ما رأى:
- إني رأيتُ سمكاً من أحجام مختلفة تسبح على مقربة من شاطئ البحر فأصبتُ منها عدداً ولما رجعتُ بيتي فتحتُ إحداهن وإذا بداخلها شيء من اللؤلؤ المثقوب .
يجيبه عالم التأويل :
- خيراً بإذن الله ، السمك هو رزق من الله يُصيبك . والله أعلم . ولكن هذا اللؤلؤ يدل على الدموع الجارية أو الرزق من غير تعب .
فرح أبو زاهر ولكن بشيء من الحذر والخوف من المجهول .. وبينما كان يُحدّث نفسه وهو يمشي على رصيف الشارع بعد أن صار في المدينة يبحث عن عمل ، شاهد صندوقاً يفلتُ من دراجة نارية ويطير في الهواء ويستقر بالقرب منه ويتناثر ما بداخله .. هرول أبو زاهر ناحية الصندوق وإذا بحليّ من الذهب تلمع صُفرته تحت أشعة الشمس الأرجوانية كومة صغيرة وكثير قد تناثر ليستحوذ عليه قبل أن تتناوله أيدي المارّة.. نعم إنه ذهب ، ذهبٌ والله ..إنه ذهب ..إنه أشد لمعاناً وبريقاً من أن يكون معدناً رخيصاً .
من الصعوبة بمكان وصف السعادة التي غمرتْ أبا زاهر عندما أدهشه سرعة تحقيق رؤياه مؤمناً أن تأويل السمك الذي اصطاده هو مُحتوى الصندوق فهذا رزق .. وهو من الذهب ، لكن من أي قيراط ؟ هذا ما سيعرفه عندما يتوجه به إلى بائعي الذهب .
لن أشتري لأولادي بعد اليوم شيئاً ، سيأخذون حاجاتهم من محلات أبيهم التجارية ، سوبر ماركت أبي زاهر ، لا لا .. مجمع أبي زاهر التجاري ، يضم الحلوى واللحوم المشوية ليأكلها أولادي طازجة برائحتها الزكية ، والألبسة الجميلة ليلبس ابني وائل لباس المدرسة الخاص به فرحاً بدلاً مما كان يَرِث عن أخيه الأكبر لباسه كل بداية عام دراسي وكذلك يستبدله كلما ذهب بريقه ، والأحذية الفخمة بدلاً من تلك البلاستيكية التي حزت أرجلهم من يبوستها .. نعم إنه سيتحقق عندما أبيع هذه المجوهرات الكثيرة ، هذا ما أصبح يُحدث به أبو زاهر نفسه .
إلا أن أمانته جعلته ينتظر في مكانه عودة صاحبها فهو أحق بها وقليل منها بالحلال أفضل من كثير بالحرام ثم حدّث نفسه ثانية :
" لا شك أن صاحبها سيفرح فرحاً شديداً عندما أردّ عليه ماله وسيكافئني بمبلغ كبير أُصلح به حالي وحال عائلتي وأجلب لهم وجبة من اللحم المشوي و العصائر الطازجة التي يشربها مترفو أهل المدينة نحتفل بيوم تاريخي نأكل به طعام الأغنياء ليوم لن يتكرر .. على الأقل لن يتكرر على عيني ولكن ربما يبتسم الحظ لأبنائي بعد وفاتي فيأكلونها مع زوجاتهم وأبنائهم "
طال انتظاره وازداد جوعه فقرر العودة إلى القرية ليرجع إلى ذات المكان في اليوم التالي..
فتح الصندوق أمام زوجته يسألها إن كان هذا ذهباً فقالت وهي تضحك :
- كأنك لا تعرف أنني لم ألبس الذهب حتى في عرسي !
- صحيح ولا تذكريني فتلتهب عليّ ذاكرتي ولا أفرح بهذا المال . ولكن ستلبسينه بإذن الله .
- مِنْ هذا .. لا وألف لا .
- حقاً ما تقولين ، إن صاحبه بأمسِّ الحاجة إليه .
عاد إلى نفس المكان الذي وجد فيه الصندوق وجلس في مكان نظيف يترقّب مجيء أحدٍ يبحث عما فقد ..
سأل أبو زاهر أحد المارّة الذي كان يرمقه :
- هل فقدتَ شيئاً .
- لا .
ثم مارّ آخر ملتصق بزوجته تماماً يتبادلان حديثاً حميمياً ربما في الحب .. حملق هذا الرجل في أبي زاهر ثم رجع بنظره إلى زوجته يتهامس معها قائلاً بصوت خافت كي لا يجرح شعور الجالس أبي زاهر : - يبدو أنه من الذين تجوز عليهم الصدقات ، إنه عاجز .
تُجيب الزوجة بنفس الصوت الخافت :
- أجل إنه عاجز ويبدو أن دعاءه مُستجاب ، اطلب منه أن يرزقنا الله بطفل .
ثم بادلها أوراقاً مالية واختار واحدة ودفعها له وقال :
- ادعُ الله لي أن يرزقني طفلاً .
ردَّ أبو زاهر وهو يقلِّب الورقة مندهشاً :
- ولكن يا أخي أنا لستُ شحّاذاً ..
قال هذه العبارة وهو أحوج إلى هذه الورقة المالية التي كانت تعادل ضعف راتبه لشهر كامل أثناء وظيفته ثم رجع إلى عزّة نفسه وترفعه عن الصدقات فأتبع قائلاً بنبرة استعلاء :
- أنا أنتظر هنا لعل فاقد المال يعود لأخذ ماله الذي ضيّعه .
- إنْ لم تُعجبك سأزيدك ؟
- خذها ... وقذف بها إليه .
وضع المارّ ماله في جيبه وهو يقول :
- سبحان الله ! لم أرَ شحاذاً كهذا لا يقبل الصدقات ، ويتعفف عندما لا تُعجبه الصّدقة مُدّعياً أنه ينتظر أحداً مع أني كنتُ سأزيده .
- دعْك منه ، أنت رجل طيب يا حبيبي .
وتابع الزوجان طريقهما يُكملان أحاديثهما الصباحية فيما لملم أبو زاهر نفسه وغيّر جلسته التي لم تعد تُجدي وأصبحتْ تثير الشكوك وربما تأتيه دورية مكافحة التسوُّل تظنّه كما ظنّه ذاك الرجل فيصبح في السجن لا يصدقه أحد أنه ليس شحاذاً .. وقبل مغادرته المكان ترك عند صاحب الدكّان القريب من المكان خبر المال ، وأثناء خروجه من الدكان دخلت امرأة تلبس في يديها أساور من الذهب فانتظرها ليسألها عن ذهبه .
- أختي الفاضلة .. السلام عليكم .
- وعليكم السلام ! أتعرفني ؟
- لا .. المعذرة ، فقط أريد أن أسألك سؤالاً .
- تفضل .
فتح الصندوق واستخرج شيئاً من محتواه ورفعه إليها .
- هل هذا ذهب ؟
- أجل . إنه ذهب ولكن ...
قاطعها بصراخه فأكملت طريقها وهي تقول بصوت مسموع :
- اللّهم ثبت علينا العقل والدين .
رجع أبو زاهر في اليوم الثالث يسأل صاحب الدكان عن معرفته إن كان أحد فقد مالاً فأجابه أن لا علم له ولم يسأله أحد عن فقدان شيء فقرر العودة بالصندوق إلى بيته وأنه لا حجة لفاقده بعد مهلة ثلاثة أيام ومع هذا فقد قرر أيضا أن يرد المال إلى صاحبه في المستقبل إن كان قد اهتدى إليه .وعندما دخل البيت سألته زوجته :
- هل وجدتَ صاحب المال يا أبا زاهر ؟
- لا والله لم أجده .
- ماذا ستفعل به .
- سأتصرف به على أنه مالي .
- هل تريد أن تُطعمنا من الحرام ؟!
- لا ، معاذ الله .
- إذن ماذا تسميه ؟
- سأردّ عليه ماله في المستقبل إن عرفته .
- هكذا لا بأس .
غمرت العائلة بأفرادها الخمسة سعادة وفرح وسرور وأمل في مستقبل يبرق نعيماً لا حدود لمنتهاه لأن استثمار أبي زاهر لهذا المال الكثير سينمو أضعافاً مضاعفة ولن يصرفه على ملذاته في الوقت الحاضر وإنما سيُتاجر به ويصرف بعضاً من أرباحه .. وسرعان ما سأل زاهر أباه :
- ماذا ستفعل يا أبي بالمال بعد أن تبيع الذهب ؟
- سأُجيبك حالاً .
دخل أبو زاهر وأحضر شيئاً بعد وقت ليس بالقصير وقال للعائلة :
- اتبعوني .
لحقتْ العائلة بأكملها برب الأسرة وهم أمام مشهد رهيب ، وضع أبو زاهر ورقة مكتوب فيها "الفقر" وناول كل واحد منهم معولاً أو شيئاً يشبه المعول وأوقفهم بالقرب من حفرة ورمى بالورقة في الحفرة بعد أن ألقى كل فرد من أفراد العائلة نظرة عليها وقرأ ما فيها .
صرخ أبو زاهر بصوت يشق عباب الفضاء بقوله :
" هيا لنقبر الفقر ".
ضحك الأولاد وهم يقفزون فرحاً ويقبّلون أباهم الذي قبر الفقر إلى الأبد لأنه ضيف لا مرحباً به ، ثم خلد كلٌّ منهم إلى أحلام وتخيلات كلٌّ على قدر عمره هذا بالطبع بعد تحقيق الحلم في بناء فيلا من دورين يُزينها كثير من الأشجار والورود ومسبح يتلألأ ماؤه الصافي مع بارقة الصباح .
يقول زاهر لأخيه الأصغر وهو في حالة تأمل أو تخيل :
- بماذا تُفكر يا وائل ؟
- بغرفة لي بها حمام خاص ومكتبة وخزانة لألبستي .
- وأنت ؟
- بغرفتين ، أستقبل في إحداهن أقراني .
ثم قاطعتْ ربة البيت أخيلة الجميع تطلب من زوجها المسارعة في بيع هذه المصوغات الذهبية لإصلاح أحوال الأسرة فيجيبها الزوج :
- رغم هذا فأنا غير مُطمئن .
- لماذا ؟ أليس الذهب بين يديك ؟
- بلا ، ولكنّ رؤياي فيها شيء غامض إن صدقت الرؤيا على هذا الصندوق ومع الصباح سنعرف كل شيء بإذن الله .
اضطجع في فراشه ثم أخذ يُفكر بكثرة الديون التي تكبّدها خلال هذه الأيام الثلاثة في الانتظار الطويل دون عمل وفي مصروف الطريق ثم تذكر أنه لا يملك أجرة الطريق ليوم الغد .. أسئلة كثيرة وأحلام لم تتركه ينام ، لأن أحلام اليقظة ستغنيه عن أحلام النوم ، ثم وجهت له زوجته سؤالاً في آخر الليل بعد أن تحسست أن زوجها لم ينم بعد :
- هل ستتزوج عليّ يا أبا زاهر ؟
- ألم تنامي بعد ؟
- مثلك ...
قاطعها قائلاً :
- ولكن تفكيري ليس كما تفكرين .
- الرجال دائماً يتهربون من الإجابة عن مثل هذه الأسئلة .
- لكنني لن أفعلها فأنت رفيقة حياتي .
ثم استدارت الزوجة قلقة تُفكر بمستقبل مرير مع تعدد الزوجات رغم كثرة الوعود من زوجها ..حلّ الصباح بإشراقة أمل قد لاح على أعين لم تنم طيلة الليل ..
لبس أبو زاهر ثيابه المتواضعة وخرج يقرع باب صديقه الحميم السيد أمجد ليستدين منه أجرة الطريق فوجده نائماً فأيقظه وطلب منه مبلغاً زهيداً ولكنه ليس على أبي زاهر بالزهيد ( على الأقل الآن )
- وماذا تريد من المدينة بعد أن فقدت وظيفتك وليس معك المال لتتسوق ؟ ألا تريد مالاً يكفيك للعودة وشراء شيء للأولاد ؟
يرفع إليه أبو زاهر كيساً أسود ويشير إليه قائلاً :
- سأبيع هذا وأردّ عليك كامل حقك عندي وحبّة مسك .
- ما هذا ؟ إنه كيس قمامة .
- أجل للتمويه وصرْف الأنظار عن محتواه .
- لو كنت أعلم أن عندك ذهب لقلتُ لك إنك مُحق فيما تقول .
- سأقول لك عند عودتي من المدينة لأنني على عجلة من أمري و أريد أن ألحق الحافلة قبل رحيلها .
انصرف أبو زاهر بعد أن حصل على المبلغ مع كثرة الأسئلة الفضولية وهو يخاطب يده :
- هذه آخر مرة أضعكِ في موضع الطلب ، اعذريني الآن . الآن فقط .
ركب أبو زاهر في مقعده بجانب رجل عجوز وتأبط الكيس حذراً من أية غفلة عنه أو إغماضة عين ثم أخذ يصارع النعاس الذي انتابه جراء سهره الليل كله .. دخل في أحاديث مملة مع العجوز الذي لا يسمعه إلا بعد إعادة وتكرار وبصوت مرتفع .
على أبي زاهر أن يتحمل صوت هدير محرك الحافلة القديمة والمتهالكة وشدة الحر التي تلفحه بها ألسنة الرياح من النافذة لنحو مئة كيلو متر حتى يصل إلى الموقف ، أخذ يَهْذي بكلمات لشدة نُعاسه ولحسن حظه أن هذا العجوز لا يسمعه ثم لحظات وأحكم إطباق جفنيه وفتح فمه على أكبر قدر ممكن لسحب هواء يدفعه من فتحتي أنفه مُحدثاً صوتَ صفيرٍ لا ينتسب بحال إلى صوت العصافير أو البلابل بل لعله يضاهي صوت هدير المحرك .
قليل من رشات الماء من معاون الحافلة على وجه أبي زاهر بعد ما تبين له أن صوته لم يوصله إلى نتيجة في محاولة إيقاظ هذا الراكب النائم ليَتَنَبّه أبو زاهر من ثباته العميق فزعاً يتلمس حجم الكيس ليجده كما هو ، فحمد الله ثم نزل على مسافة قريبة من بريق أمل في أسواق الذهب و الصّاغة .. شعر بشيء من الجوع فهو لم يتناول طعام الإفطار مع عائلته فأخذت المطاعم الفخمة تخطف أنظاره فرد بصره إلى شيء أهم هو بيع الذهب أولاً وأخذ يُحذر نفسه بعدم الثقة من أول عرض يأتيه ، بل سيسأل جميع الصاغة ويختار العرض الأكبر .
لن أترك أحدهم يضحك عليّ لجهلي بالذهب وسعره ، سوف أسألهم جميعاً ، سيعرفون من شكلي وهندامي أنني لست ممن يفهمون بيع الذهب ، ولكن هيهات المذلة إلا لله وحده .. أنا أبو زاهر الرجل الفطن النّبيه ... هكذا حدّث أبو زاهر نفسه قبل أن يدخل أول سوق للذهب .
- مرحباً .
يُجيبه الصائغ مُتململاً بزبون رثّ في باكرة الصباح سوف يجلب النحس لمكانه لا محالة ..على أقل تقدير كما تراءى له :
- أهلاً ، تفضل ماذا تريد أن تشتري .
يضع الكيس على المنضدة أمام الصائغ قائلاً :
- بل أريد أن أبيع هذا .
- لم أستفتح بعدُ بأي بيع فلا أستطيع شراء شيء حتى المساء فلديك كمية كبيرة وثمنها كبير جداً .
استبشر أبو زاهر خيراً وتوجه إلى صائغ آخر وعرض عليه الذهب فأجابه كصاحبه الأول ليخرج دون ملل إلى صائغ ثالث :
- السلام عليكم .
- وعليكم السلام . هل أعجبك شيء في الواجهة ؟
- " لا .. "
قاطعه الصائغ مستنكراً :
- إذن لماذا دخلت .. هيا اخرج فأنا لستُ ألعب ها هنا .
بلع أبو زاهر غضبه مما تعرض إليه من هؤلاء الصاغة الأغنياء الذين يحتقرونه من مظهره فتحمّلهم لأنه بات قاب قوسين كي يكون في عداد الأغنياء الأثرياء وربما من أصحاب السلطة والجاه .. قال :
- سامحك الله يا أخي ، أريد بيع هذا ولا أريد الشراء .
- هداك الله ، تأتي باكراً تريد البيع! تعال في المساء .
خرج أبو زاهر وبدأ القلق ينتابه خوفاً من تعرضه للسرقة فهو لا يعرف أحداً في المدينة ولا يقدر أن يدافع عن نفسه لعجزه ولا يملك المال ليأكل أو يذهب إلى القرية ويعود في المساء ، ثم إنه إن عاد إلى القرية فسيرجع في الحال لضياع الوقت في الطريق وبذلك يحل المساء فلا يستفيد شيئاً ولن يرجع القرية حتى ولو كان ثمة وقت فلن يستطيع المغادرة لعدم وجود أجرة الذهاب فضلاً عن العودة ثانية وإن كان ثمة نقود فلن يبرح المدينة حتى يبيع الذهب كي لا يأتي بيته بخيبة الأمل وصفرة اليدين وشماتة الشامتين وكثير من الأفكار هو في غنى عنها ..
قرر أن يبيع محتوى الكيس فُرادى على كثير من الصاغة فدخل باباً رابعاً :
- أريد البيع ، هل تشتري الذهب ؟
- أشتري ولمَ لا ، فأنا هنا لأشتري وأبيع ، هل تراني ألعب ، زن كلامك قبل أن تنطق به يا هذا .
بلع غضبه ثانية بيبوسة في ريقه وكظم غيظه فلن يستطيع أن يفعل شيئاً في المدينة ينتقم لكرامته فقبِل قُبح المعاملة نظراً لحاجته لبيع الذهب .. أخرج عيّنة من الكيس دون أن يتفوّه بكلمة واحدة وسلّمها للصائغ .. وضع الصائغ سوار الذهب تحت المجهر فقال بصوت مرتفع جداً :
- هل تراني غبياً ؟!
بلع أبو زاهر يبوسة ريقه وقال :
- معاذ الله .
- من أين هذا الذهب ؟
- عثرتُ عليه في الشارع .
يضحك الصائغ ويقول له :
- أرجعه إلى حيث وجدته.
يبتسم أبو زاهر ليخفي خوفه من اتهامه بالسرقة :
- والله لقد زرعت نفسي لثلاثة أيام في المكان الذي عثرتُ فيه على هذا الذهب ولم أجدْ له صاحباً فقررتُ أن أستفيد منه إلى أن يظهرَ صاحبه .
- لن يظهر له صاحب أبداً .
- لماذا ؟
- لأنه لا يساوي شيئاً في سوق الذهب .
- أليس ذهباً ؟
- بلا ، ولكنه ذهب روسي .
- وماذا يعني أنه روسيّ ! أنت تقول بلسانك أنه ذهب .
يجلس الصائغ ويقول : أنصحك أن ترمهِ في الحاوية .. أو اسمع ، ألبسه لبناتك إن كان لديك بنات .
- وإذا أردتُ بيعه فكم يساوي .؟ إنه كثير .
- تستطيع أن تبيعه في الشارع كما يفعل الباعة المتجولون .. ثم إنك أخرتني عن عملي .
أصبح أبو زاهر تائهاً في المدينة بعد أن نفد ماله الذي استدانه فلا يملك أجرة العودة .. فكرّ مليّاً ولم يُجْدِ التفكيرُ نفعاً فأفكاره لا تقوده إلا إلى طريق مسدود حتى حان وقت أذان الظهر فدخل المسجد وهو يقول في نفسه : " هنا نِعْم القرار في بيت الله بعد الانتهاء من الصلاة إلى أن يحكم الله لي وهو خير الحاكمين" .. ردد الأذان ودعا الله الوسيلة ثم رفع يديه يدعو ما بين الأذان والإقامة فهو وقت فضيل لإجابة الدعاء وبعد انتهاء الصلاة وفراغه من صلاة السنة اضطجع قرب العمود متوسداً غترته الممزقة ، وما إن غمضت عيناه حتى جاءه مشرف المسجد يوقظه يريد إخراجه ليغلق المسجد .
مشى أبو زاهر خطوة إلى الوراء وأخرى تتعثر في أختها إلى أن فاجأه صديق الطفولة والشباب أيام الدراسة في المدينة ، إنه وسيم .
" السلام عليكم ".
تصافح الاثنان ببالغ السرور وكأن أبا زاهر لم يرَ بؤساً قط ثم جلسا على قارعة الشارع وتساءل أبوزاهر عن عدم مشاهدته صديقه القديم داخل المسجد وهما الآن أمامه تماماً فردّ وسيم :
- ألا تعلم أنني لا أصلّي .
- بلى ، ولكن تلك أيام طيش .
ولمِا يتمتّع به أبو زاهر من لسان عذبٍ الكلمات استطاع أن يُقنع صاحبه بالالتزام بالصلاة وأداء الفرائض كلها فهو كذلك لا يصوم ، وفوق كل بليّة فإنه يعترف أنه يلعب القمار ويشرب الخمر وفجأة عدل عما كان يقترفه ..
لم يتوقف وسيم عند قبوله للنصيحة بل استضافه في بيته وساعده في البحث عن عمل مناسب وأغدق عليه العطايا وأرجعه إلى بيته في القرية بسيارته الخاصة محملاً بالهدايا لأبنائه والحلويات والدجاج المشوي .
سلّم أبوزاهر على زوجته وأبنائه وطبع قبلاتٍ حارة في وجناتهم الطرية وقال وهو مقتنع برزقه :
- لَئِن يهديَ الله بكَ رجلاً واحداً خيرٌ لكَ مما طَلَعتْ عليه الشمس. "حديث شريف"
الأربعاء مارس 01, 2017 5:19 pm من طرف بداية المشوار
» اشتقت اليكم
السبت مايو 16, 2015 8:18 pm من طرف الختيار
» فقدناكم عساكم بخير
الجمعة يناير 23, 2015 10:33 pm من طرف الختيار
» مشروع قانون جديد يتعلق بدخول العرب والأجانب إلى سورية
الأربعاء نوفمبر 20, 2013 8:59 pm من طرف بداية المشوار
» أبشع جريمة في تاريخ البشرية
السبت نوفمبر 02, 2013 11:08 pm من طرف بداية المشوار
» زيادة الرواتب بسوريا
السبت يونيو 22, 2013 2:57 pm من طرف بداية المشوار
» قطرة عسل
الجمعة مايو 10, 2013 6:56 pm من طرف بداية المشوار
» غادرت الحنونة وتركت لي الحسرة
الأربعاء مايو 01, 2013 7:06 am من طرف بداية المشوار
» اكتشاف مكان طوفان نوح
الإثنين أبريل 29, 2013 10:36 am من طرف بداية المشوار
» الحب درجات
الأربعاء أبريل 24, 2013 10:16 am من طرف بداية المشوار
» كيف تتخلص من كرشك
الثلاثاء أبريل 16, 2013 10:36 pm من طرف بداية المشوار
» فضائل يوم الجمعة
الجمعة أبريل 12, 2013 11:07 am من طرف بداية المشوار
» فضل الله
الأربعاء أبريل 10, 2013 8:57 am من طرف بداية المشوار
» فضل تلاوة القرآن
الإثنين أبريل 08, 2013 10:52 pm من طرف بداية المشوار
» بروكسي جديد لكسر المواقع الإباحية
الثلاثاء يناير 15, 2013 12:07 am من طرف بداية المشوار
» فضائل يوم الجمعة
الإثنين يناير 14, 2013 11:59 pm من طرف بداية المشوار
» أسماء المَدِيْنَة المُنَوَّرَة
الإثنين يناير 14, 2013 11:54 pm من طرف بداية المشوار
» الأعمى والربيع
الثلاثاء يناير 08, 2013 8:09 pm من طرف نضال64
» النسر الدجاجة
الثلاثاء يناير 08, 2013 8:06 pm من طرف نضال64
» لا واسطة في أمر الدعاء
الجمعة يناير 04, 2013 9:31 pm من طرف بداية المشوار
» كاظم الساهر : موال يا دنيا انتي الحرمتني
الخميس ديسمبر 20, 2012 10:42 am من طرف بداية المشوار
» مما قرأته و اعجبني
الخميس ديسمبر 20, 2012 10:38 am من طرف بداية المشوار
» هذا ديني . . الاسلام
الثلاثاء ديسمبر 11, 2012 11:19 pm من طرف بداية المشوار
» تعالالي يا روح امك
الثلاثاء ديسمبر 11, 2012 11:16 pm من طرف بداية المشوار
» كن في الدنيا كأنك غريب او عابر سبيل
الخميس نوفمبر 29, 2012 1:53 pm من طرف بداية المشوار