يوم الأعاجيب
خطيب بدلة
في يوم من الأيام .. قرأ أديبُنا الساخر الأستاذ غازي أبو عقل حكمة أعجبتْهُ، فآمن بها، واعتنقها، بوصفها مبدأ أساسياً من مبادئ الأدب الساخر الناجح، هذا نصها : (يمكنُكَ اعتبارُ نفسكَ قد بدأت الدخول في سن النُضج، عندما تضحكُ ضحكَتَكَ الأولى... ساخراً من نفسِكَ)!
من هذا المنطلق يمكنني أن أعتبر صديقي المرحوم أبا النور واحداً من الساخرين الكبار، الناضجين، لأنه كان دائم السخرية والتنكيت و(الأنكلة) على نفسه.
دخلت عليه، ذات يوم من أيام الشتاء، فوجدته قد كَوَّمَ أمامه- على نحو عشوائي- عدداً كبيراً من علب الكبريت (الثقاب).
قلت: ما هذه؟
قال: شوفة عينك.. علب كبريت ملانة.. قبل قليل استعدتُها من سلة المهملات.
قال: أيش حكايتها؟ وطالما أنها ملانة، ما الذي أوصلها إلى سلة المهملات؟
قال: القصة طويلة. ملخصُها أنني اعتدتُ، منذ زمن طويل، أن أُقَرِّبَ علبة الكبريت من أذني، وأحركُها، فإذا صدرت عنها خشخشة، أفهمُ أن فيها بعض الأعواد، فأفتحها، وأستخرج عوداً، أقدحه وأشعل المدفأة، وإذا لم يصدر عنها صوت أستنتجُ أنها فارغة فأرميها في سلة المهملات. والغريب في الأمر أن كل هذه العلب التي تراها، حينما حركتُها قرب أذني لم يصدر عنها أي صوت، أو خشخشة، أو نأمة، فأرسلتُها، الواحدة تلو الأخرى إلى السلة. ولأنه لم يبق في البيت أية علبة كبريت، فإنني لم أستطع إشعال المدفأة، وخرجت من توي إلى السوق لأشتري كمية من علب الكبريت.
قلت: حسناً فعلت.
قال: وعلى ما يبدو أن هذا النهار هو نهار الأعاجيب، ذلك أنني، بمجرد ما تجاوزتُ الزاروب الذي يمرّ من تحت (السيباط) في الحارة الشمالية، ونَفَذْتُ إلى ساحة الخضار، بدأتْ سلاماتُ الناس وتحياتهم تنهمر عليّ مثل زخ المطر.
قبل مدة من الزمن أنت أعرتني-إذا كنت تذكر- مجموعة قصصية للكاتب الإيطالي الرائع دينو بوتزاتي، وقلت لي إن هذا الكاتب لا يقل روعة وعظمة عن أنطون تشيخوف ويوسف إدريس. صار هذا الشيء أم لم يصر؟
قلت: صار.
قال: قرأت المجموعة القصصية من الجلدة إلى الجلدة، ومن شدة دهشتي وإعجابي بهذا الكاتب أعدتُ قراءتها مرة ثانية، وكان أكثر ما هالني قصة تتحدث عن رجل استيقظ في الصباح فوجد الدنيا جميلة، ومع أنه يسكن في بناية كبيرة في مدينة كبرى تعاني من تلوث البيئة أحسّ بنظافة الجو، وكثرة الأكسجين في الهواء، ومع أن السيارات كانت تزمر و(تطوِّط)، بسبب ومن دون سبب، تناهى إلى أذنيه صوت تغريد بلابل، أو ربما هديل يمام مما يسمّيه أهل دمشق القديمة (الستيتيات)، وشعر بأن قدميه خفيفتان، وجسده مندفع، وروحه وثاب، ولم يطق على هذه الحالة صبراً، فخرج إلى الشارع، فاكتملت سعادتُه، بل طفحت، لأن كل من رآه في تلك الآونة، من رجال ونساء، كانوا يبتسمون له بمحبة بادية، ثم يسلّمون عليه، ومنهم من كان يهبّ لتقبيله (أو يحبحبه على الخدين، بجسارة)، رغم أن عادة التقبيل (أو الحبحبة على الخدين) ليست مستحبّة في نظر الأطباء، لأنها تنقل الأمراض السارية.. المهم يا سيدي ملا أنت، والرجل مسرور ومتألق، وإذا بسيارة تأتي بسرعة البرق وتصدمه وإذا به ينزل على الأرض جثة هامدة.
قال أبو النور: أنا صار معي كل هذا، عدا البند الأخير، إذ لم تأت سيارة وتضربني وتنزلني على الأرض جثة هامدة.. وكل الناس الذين رأوني، وبالأخص سائقي السيارات، حيوني بأيديهم، وكنت أرى شفاههم تتحرك، فأرد عليهم بسلام أحسن من سلامهم.
قلت: بالفعل هذه القصة غريبة.
قال: أي نعم، وقد بقيت مستغرباً هذا الذي يحصل حتى التقيت ابني (عبدو).. لم يسلم عليّ بل سحبني من يدي إلى الرصيف، وأوقفني وأفهمني حقيقة الموقف.
قلت: بالله؟ وما هي حقيقته؟
قال: اتضح أن هؤلاء الناس ما كانوا يسلّمون عليّ، بل يصرخون بي لكي أبتعد من الطريق.. بعدما زمروا لي و(طوطوا) لي كثيراً، وأنا لم أسمع. هل تعرف أين النكتة؟
قلت: بعد كل هذا ما زالت لديك نكتة؟
قال: النكتة أنني، في هذا اليوم بالذات، قد أصبت بما يشبه الصمم، فقد انخفضت نسبة السماع لديّ إلى النصف تقريباً. ثم إن ابني عبدو، بعدما أخرجني من دائرة الخطر في الساحة، سألني عن السبب الذي يجعلني أرمي كل علب الكبريت الموجودة لدينا في سلة المهملات، مع أنها ملأى بعيدان الثقاب!.
خطيب بدلة
في يوم من الأيام .. قرأ أديبُنا الساخر الأستاذ غازي أبو عقل حكمة أعجبتْهُ، فآمن بها، واعتنقها، بوصفها مبدأ أساسياً من مبادئ الأدب الساخر الناجح، هذا نصها : (يمكنُكَ اعتبارُ نفسكَ قد بدأت الدخول في سن النُضج، عندما تضحكُ ضحكَتَكَ الأولى... ساخراً من نفسِكَ)!
من هذا المنطلق يمكنني أن أعتبر صديقي المرحوم أبا النور واحداً من الساخرين الكبار، الناضجين، لأنه كان دائم السخرية والتنكيت و(الأنكلة) على نفسه.
دخلت عليه، ذات يوم من أيام الشتاء، فوجدته قد كَوَّمَ أمامه- على نحو عشوائي- عدداً كبيراً من علب الكبريت (الثقاب).
قلت: ما هذه؟
قال: شوفة عينك.. علب كبريت ملانة.. قبل قليل استعدتُها من سلة المهملات.
قال: أيش حكايتها؟ وطالما أنها ملانة، ما الذي أوصلها إلى سلة المهملات؟
قال: القصة طويلة. ملخصُها أنني اعتدتُ، منذ زمن طويل، أن أُقَرِّبَ علبة الكبريت من أذني، وأحركُها، فإذا صدرت عنها خشخشة، أفهمُ أن فيها بعض الأعواد، فأفتحها، وأستخرج عوداً، أقدحه وأشعل المدفأة، وإذا لم يصدر عنها صوت أستنتجُ أنها فارغة فأرميها في سلة المهملات. والغريب في الأمر أن كل هذه العلب التي تراها، حينما حركتُها قرب أذني لم يصدر عنها أي صوت، أو خشخشة، أو نأمة، فأرسلتُها، الواحدة تلو الأخرى إلى السلة. ولأنه لم يبق في البيت أية علبة كبريت، فإنني لم أستطع إشعال المدفأة، وخرجت من توي إلى السوق لأشتري كمية من علب الكبريت.
قلت: حسناً فعلت.
قال: وعلى ما يبدو أن هذا النهار هو نهار الأعاجيب، ذلك أنني، بمجرد ما تجاوزتُ الزاروب الذي يمرّ من تحت (السيباط) في الحارة الشمالية، ونَفَذْتُ إلى ساحة الخضار، بدأتْ سلاماتُ الناس وتحياتهم تنهمر عليّ مثل زخ المطر.
قبل مدة من الزمن أنت أعرتني-إذا كنت تذكر- مجموعة قصصية للكاتب الإيطالي الرائع دينو بوتزاتي، وقلت لي إن هذا الكاتب لا يقل روعة وعظمة عن أنطون تشيخوف ويوسف إدريس. صار هذا الشيء أم لم يصر؟
قلت: صار.
قال: قرأت المجموعة القصصية من الجلدة إلى الجلدة، ومن شدة دهشتي وإعجابي بهذا الكاتب أعدتُ قراءتها مرة ثانية، وكان أكثر ما هالني قصة تتحدث عن رجل استيقظ في الصباح فوجد الدنيا جميلة، ومع أنه يسكن في بناية كبيرة في مدينة كبرى تعاني من تلوث البيئة أحسّ بنظافة الجو، وكثرة الأكسجين في الهواء، ومع أن السيارات كانت تزمر و(تطوِّط)، بسبب ومن دون سبب، تناهى إلى أذنيه صوت تغريد بلابل، أو ربما هديل يمام مما يسمّيه أهل دمشق القديمة (الستيتيات)، وشعر بأن قدميه خفيفتان، وجسده مندفع، وروحه وثاب، ولم يطق على هذه الحالة صبراً، فخرج إلى الشارع، فاكتملت سعادتُه، بل طفحت، لأن كل من رآه في تلك الآونة، من رجال ونساء، كانوا يبتسمون له بمحبة بادية، ثم يسلّمون عليه، ومنهم من كان يهبّ لتقبيله (أو يحبحبه على الخدين، بجسارة)، رغم أن عادة التقبيل (أو الحبحبة على الخدين) ليست مستحبّة في نظر الأطباء، لأنها تنقل الأمراض السارية.. المهم يا سيدي ملا أنت، والرجل مسرور ومتألق، وإذا بسيارة تأتي بسرعة البرق وتصدمه وإذا به ينزل على الأرض جثة هامدة.
قال أبو النور: أنا صار معي كل هذا، عدا البند الأخير، إذ لم تأت سيارة وتضربني وتنزلني على الأرض جثة هامدة.. وكل الناس الذين رأوني، وبالأخص سائقي السيارات، حيوني بأيديهم، وكنت أرى شفاههم تتحرك، فأرد عليهم بسلام أحسن من سلامهم.
قلت: بالفعل هذه القصة غريبة.
قال: أي نعم، وقد بقيت مستغرباً هذا الذي يحصل حتى التقيت ابني (عبدو).. لم يسلم عليّ بل سحبني من يدي إلى الرصيف، وأوقفني وأفهمني حقيقة الموقف.
قلت: بالله؟ وما هي حقيقته؟
قال: اتضح أن هؤلاء الناس ما كانوا يسلّمون عليّ، بل يصرخون بي لكي أبتعد من الطريق.. بعدما زمروا لي و(طوطوا) لي كثيراً، وأنا لم أسمع. هل تعرف أين النكتة؟
قلت: بعد كل هذا ما زالت لديك نكتة؟
قال: النكتة أنني، في هذا اليوم بالذات، قد أصبت بما يشبه الصمم، فقد انخفضت نسبة السماع لديّ إلى النصف تقريباً. ثم إن ابني عبدو، بعدما أخرجني من دائرة الخطر في الساحة، سألني عن السبب الذي يجعلني أرمي كل علب الكبريت الموجودة لدينا في سلة المهملات، مع أنها ملأى بعيدان الثقاب!.
الأربعاء مارس 01, 2017 5:19 pm من طرف بداية المشوار
» اشتقت اليكم
السبت مايو 16, 2015 8:18 pm من طرف الختيار
» فقدناكم عساكم بخير
الجمعة يناير 23, 2015 10:33 pm من طرف الختيار
» مشروع قانون جديد يتعلق بدخول العرب والأجانب إلى سورية
الأربعاء نوفمبر 20, 2013 8:59 pm من طرف بداية المشوار
» أبشع جريمة في تاريخ البشرية
السبت نوفمبر 02, 2013 11:08 pm من طرف بداية المشوار
» زيادة الرواتب بسوريا
السبت يونيو 22, 2013 2:57 pm من طرف بداية المشوار
» قطرة عسل
الجمعة مايو 10, 2013 6:56 pm من طرف بداية المشوار
» غادرت الحنونة وتركت لي الحسرة
الأربعاء مايو 01, 2013 7:06 am من طرف بداية المشوار
» اكتشاف مكان طوفان نوح
الإثنين أبريل 29, 2013 10:36 am من طرف بداية المشوار
» الحب درجات
الأربعاء أبريل 24, 2013 10:16 am من طرف بداية المشوار
» كيف تتخلص من كرشك
الثلاثاء أبريل 16, 2013 10:36 pm من طرف بداية المشوار
» فضائل يوم الجمعة
الجمعة أبريل 12, 2013 11:07 am من طرف بداية المشوار
» فضل الله
الأربعاء أبريل 10, 2013 8:57 am من طرف بداية المشوار
» فضل تلاوة القرآن
الإثنين أبريل 08, 2013 10:52 pm من طرف بداية المشوار
» بروكسي جديد لكسر المواقع الإباحية
الثلاثاء يناير 15, 2013 12:07 am من طرف بداية المشوار
» فضائل يوم الجمعة
الإثنين يناير 14, 2013 11:59 pm من طرف بداية المشوار
» أسماء المَدِيْنَة المُنَوَّرَة
الإثنين يناير 14, 2013 11:54 pm من طرف بداية المشوار
» الأعمى والربيع
الثلاثاء يناير 08, 2013 8:09 pm من طرف نضال64
» النسر الدجاجة
الثلاثاء يناير 08, 2013 8:06 pm من طرف نضال64
» لا واسطة في أمر الدعاء
الجمعة يناير 04, 2013 9:31 pm من طرف بداية المشوار
» كاظم الساهر : موال يا دنيا انتي الحرمتني
الخميس ديسمبر 20, 2012 10:42 am من طرف بداية المشوار
» مما قرأته و اعجبني
الخميس ديسمبر 20, 2012 10:38 am من طرف بداية المشوار
» هذا ديني . . الاسلام
الثلاثاء ديسمبر 11, 2012 11:19 pm من طرف بداية المشوار
» تعالالي يا روح امك
الثلاثاء ديسمبر 11, 2012 11:16 pm من طرف بداية المشوار
» كن في الدنيا كأنك غريب او عابر سبيل
الخميس نوفمبر 29, 2012 1:53 pm من طرف بداية المشوار